تأثرت بشدة بهذا المقال للدكتورة مرام مكاوي التي تتحدث عن هذه الفئة من مجتمعنا وكيف يتعامل معها بعض أفراد المجتمع بقسوة وكيف يتبادلون الإتهامات عن سبب نشؤوهم ناسين أو متناسين أقدار الله وحكمته في خلق هؤلاء الضعفاء
توفي الأسبوع الفائت الطفل إيفان كاميرون (6 سنوات) وهو الابن البكر لزعيم حزب المحافظين المعارض في المملكة المتحدة ديفيد كاميرون. وقد عانى إيفان خلال حياته القصيرة من أمراض مزمنة، فقد ولد مصابا بشلل الدماغ، وبـ«متلازمة أوهتاهارا» الصرعية أيضاً (الشرق الأوسط، (11048.
وتوحدت الآراء في ويست منستر (مجلس العموم البريطاني) بين مختلف الأطياف السياسية لتعزي كاميرون في هذا المصاب الجلل. وتحدث رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون بألم قائلاً: ” إن وفاة أي طفل هو أمر عصيب يجب ألا يمر به أي أب”، وبراون يتحدث هنا عن تجربة فهو فقد أيضاً طفلته البكر المريضة بعد أيام من ولادتها قبل بضع سنوات. والحقيقة أن عدة أمورٍ لفتت انتباهي في حادثة موت إيفان، وجعلتني أخصص له مقالتي هذه.
فمن ناحية هزتني المشاعر النبيلة وحركني الحزن العميق الذي أبداه الأب على وفاة ابن مريض محتاج إلى رعاية على مدار الساعة، وخاصة قوله إنه كان فخوراً بأن يكون والداً لهذا الطفل الجميل الذي كانت ابتسامته مصدر سعادة لأبيه، وجعلني أتذكر مواقف بعض الآباء في عالمنا العربي والإسلامي ممن يتبرمون من حظهم العاثر لولادة طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، بل ويخجلون من الاعتراف بهذه الحقيقة، مع أنهم – كمسلمين ومؤمنين- الأجدر بالصبر والاحتساب وقبول قضاء الله وقدره. بل كنت أسمع أحياناً بعض الناس يطلقون عبارات من عينة (عسى الله أن يختاره أو يختارها) حين يشاهدون طفلاً معاقاً، خاصة من قبل الأجداد الذين يشفقون على أبنائهم وبناتهم من مشقة العناية بهذا الطفل العليل.
ومن ناحية أخرى، أعجبني هذا التكاتف بين الزوجين اللذين لم يتبادلا التهم عن المسؤول عما حصل، في حين يصر آخرون للأسف على رمي التهم على ” جينات” الطرف الآخر، قائلين بثقة: ” الحمدلله نحن في عائلتنا ليس لنا تاريخ في أمراض كهذه”، وكأن ذلك سيغير شيئاً من حقيقة الواقع المؤلم! وغالباً ما تتحمل الأم لاسيما لدى الجهات الأقل تعليماً وإدراكاً نصيب الأسد من اللوم. وفي الواقع فإن هذه الأمور ليست بيد أحد، فها نحن أمام خريج جامعة أكسفورد العريقة، وسياسي شاب يُتوقع بأن يكون رئيس الوزراء المقبل لبريطانيا فيما لو فاز حزب المحافظين بالانتخابات القادمة، والأم أيضاً سمانثا كاميرون هي سليلة أسرة أرستقراطية عريقة، وحاصلة على درجة جامعية في الفنون، ومع ذلك فقد ولد لهما ابن معاق ويعاني شكلاً من أشكال القصور العقلي. فمن الأمور الجميلة أيضاً في قصة عائلة كاميرون، أن الزوجين لم يستسلما للكآبة ويتنازلا عن أحلامهما وحياتهما، فقد أنجبا طفلين بعد ذلك، وواصل ديفيد بناء مستقبله السياسي، وواصلت سمانثا عشقها للفن وعملها كمهندسة تصميم داخلي ومتابعة أعمالها التجارية المختلفة.
ولعل الأمر الأهم هنا هو هذا الاهتمام الذي يجده المعاقون وذوو الاحتياجات الخاصة والمصابون بأمراض مزمنة في البلدان المتقدمة. ولا يقتصر هذا الاهتمام وهذه الرعاية على المريض من ناحية صحية وطبية فقط بل ومن ناحية اجتماعية ونفسية أيضاً، وتقديم الدعم له ولعائلته والمحيطين به أيضاً. فليس من السهل أن يتقبل المرء بعد انتظار تسعة أشهر فكرة أن طفله الأثير ليس كبقية الأطفال، وتعاني الأم خصوصاً من ضغوط نفسية تضاف إلى أمراض أخرى قد تتعرض لها المرأة بعد الولادة مثل اكتئاب ما بعد الولادة. لذلك فإن التخفيف عنها عن طريق تقديم العون الفعلي (مثل زيارة الممرضات لها في المنزل) أو المعنوي من توعية ودعم النفسي عن طريق ربطها بأمهات مررن سابقاً بهذه التجربة أو يعشن حالياً وضعاً مشابهاً يساعد كثيراً في تسريع عملية التكيف مع الوضع الجديد. والأمر نفسه ينطبق على الأب بل وعلى أفراد العائلة الآخرين من جد وجدة وإخوة وأعمام، ممن سيطلب منهم المساهمة في دعم هذه الأسرة الحزينة حتى تستطيع الوقوف على قدميها من جديد، وحتى لا يتأثر الأطفال الآخرون.
فمجموعات التوعية والدعم الخاصة بمرض معين أو ظرف خاص من أهم روافد المجتمعات المدنية ممن تقدم دعماً مباشراً للمنكوبين أو المصابين أو المرضى. ولها أوقافها الخاصة وجمعياتها الخيرية المعتمدة وحساباتها البنكية المعلنة، وهي غالباً ما تعمل على شقين: جانب اجتماعي توعوي ودعمي، وجانب آخر بحثي تطويري، تسعى فيه لدعم مراكز الأبحاث علها تجد دواء أو علاجاً لهذه الأمراض. ومع تطور وسائل الاتصال الحديثة، فقد أصبحت الإنترنت خصوصاً إحدى أهم الأدوات المستخدمة من قبل هذه المنظمات -التي يشرف عليها عادة متطوعون- للتواصل مع المستفيدين من خدماتها، مع وجود خط هاتفي ساخن أيضاً للاستشارة والتواصل المباشر.
مازلت أذكر تعليق صديقتي التي زارت دولة غربية هي ألمانيا لأول مرة قبل ست سنوات فكان أول ما لفت انتباهها هو هذا الاهتمام الكبير بالمعاقين، بحيث تجدهم في كل مكان، فهم جزء من النسيج الإجتماعي، يدرسون ويعملون ويتنزهون ويعيشون حياتهم إلى أقصى درجة ممكنة. في حين أن الزائر لبلداننا العربية لا يكاد يرى أي معاق في الشارع، حتى ليخيل له أننا أمة من الأصحاء! والحقيقة هي أن لدينا الكثير من ذوي الاحتياجات الخاصة، وربما أكثر من الغرب بسبب العامل الوراثي الذي يحفزه زواج الأقارب، لكن هؤلاء للأسف يقبعون بحسرتهم في البيوت إما لخجل أهلهم منهم، أو لأن مدننا وشوارعنا ومراكزنا التجارية ومدارسنا وجامعاتنا ومرافقنا جميعاً لم تضعهم في الحسبان إبان تصميمها، وبالتالي يتعذر عليهم فعلياً العيش وسطنا بسهولة.
ولن يتسع المقام هنا لأتحدث عن معاناة القادرين من هؤلاء على العمل - رغم الإعاقة - مع التوظيف، فإذا كان الشاب الصحيح يعاني بطالة، والمرأة الصحيحة لا تجد عملاً، فلنا أن نتخيل كيف يكون الوضع مع نظرائهما من ذوي الاحتياجات الخاصة. فهناك من يحكم عليهم بأنهم عاجزون بالمطلق وعليهم انتظار أجل الله وبالتالي يموتون وهم أحياء، أو يعهد إليهم بالأعمال التافهة التي لا تستفيد من قدرات بعضهم المتميزة.
من يطالع هذه الأيام وسائل الإعلام في دول الخليج على سبيل المثال يلحظ نبرة الفخر والاحتفاء بهذا المنجز الحضاري أو ذاك: أكبر مجمع طبي، أحدث مدينة إعلامية، أطول برج سكني، أسرع اتصال شبكي، على أساس أن الحضارة تقيم على أساس مادي ملموس بحت. ويبدو أننا تأثرنا أكثر مما نعتقد بأفلام الفضاء وتلك التي تتحدث عن المستقبل بحيث لم نعد نميز بين قشور الحضارة ولبها وجوهرها. فحتى الغرب الذي نصفه كثيراً بأنه مادي، اكتشف منذ زمن بعيد بأن الإنسان هو أساس كل حضارة وسيد كل مجتمع حي. والمجتمع الذي يميز بين أفراده، وينحاز لجنس دون آخر، أو طبقة دون أخرى، أو للغالبية مقابل الأقلية، أو للصحيح مقابل المريض، ليس مجتمعاً متحضراً وإن بدا كذلك من الخارج، ولن تفلح النوافذ الزجاجية اللامعة والتي تغطي واجهات البنايات في التعمية على هذه الحقيقة.
فهل حان الوقت إذن للالتفات لهذه الشريحة الغالية من مجتمعنا؟ بل وأيضاً للاهتمام بالمحيطين بهم كذلك؟ وهل حان الوقت لتتركز جهود الإصلاح والتطوير والتنمية على الإنسان قبل أي شيء آخر؟
المقال في الوطنالمقال في العربية-نت